قبل يومين كان والدي -حفظه الله- يحدثني حديثاً شجيا عن زمن الجوع الشديد الذي كان يعم الجزيرة العربية ، ونجْد على وجه الخصوص
وذكر لي حادثة غريبة عن رجل يقول عن نفسه :إنه مرت به أيام كان مع بعض أقرانه يرقبون مكاناً نائيا من القرية تلقى فيه الجيف ، فإذا ألقيت فيه ميتة راقبوها حتى إذا استوثقوا أن لا أحد يراهم
سحبوها إلى حيث يطمئنون ، ثم وصاروا يأخذون منها مزعا يشوونها ويلتهمون ... يدافعون الموت الذي يدب في أجسادهم من شدة الجوع..
هذا الرجل الذي يذكر عن نفسه أنه أكل الميتة من حرارة الجوع لازال حيا يرزق كما يذكر والدي
مما يعني أن العهد بالجوع قريب ، وأن الأجيال التي عانت منه لازال كثير منهم يجترّ ذكرياته الأليمة
لا زالوا يذكرون كيف كان الجوع والقحط يُكرِههم على الرحيل المرّ ، والتهجير القسري فيذهبون يغالبون المخاوف ، ويقاسون ذلّ الغربة وألم الحاجة في الهند والعراق وفلسطين وغيرها ..
بعضهم رجع إلى موطنه طوع اختياره بعد أن فتح الله علينا من بركات الأرض ، وبعضهم طاب له المقام ربما وألف مهجره فبقي فيه ؛ فكم العوائل النجدية الأصل لازالت تعيش في العراق ومصر والسودان ... الخ
هذا الجيل الذي عاش تلك الشدة لا يكاد اليوم يصدق ما يراه من وفرة الأرزاق ، وفيض الخيرات
التي ننعم بها اليوم ، بل يتعجبون من تقاليب الزمان ، وتبدل الأحوال بهذه السرعة ؛ إذ يرون الشعوب التي كانت بالأمس تستضيفهم في ديارها تأتي اليوم تكدح هنا لتأخذ ما كتب الله لها من رزق !
لا تفسير لهذه التحولات السريعة الخاطفة إلا ما نقرأه من معانٍ في قوله تعالى"ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون"
ومن يدري غداً من الضيف ؟ ومن والمستضيف؟
والعمّال ينظر إليهم في المجتمعات المحترمة على أنهم شركاء في التنمية ، وأحد أهم عناصر الإنتاج ومصادر الدخل القومي.
و من حق كل دولة -ولا ريب_أن تضع ما يناسبها من الإجراءات والتدابير التي تنظم دخولهم للبلد وإقامتهم وعملهم فيه
ولا خلاف أيضاً على وجوب محاسبتهم على ممارساتهم الخاطئة …الخ
لكن الذي يشعرنا _كشعب مضيّف _بالخجل ، بل نتخوّف معه من عاجل العقوبة هو الصور المفزعة من الظلم وسوء المعاملة ؛ سواء تلك التي تحدث من الأفردا أو الجهات التنفيذية المعنية بأمرهم..
فمن غير المعقول أن تظل تجارة "الفيز" مُشْرعة على مصاريعها لسنوات طويلة وبشكل إقطاعي فج ، حتى أصبحت "الفيزة الحرة" مصطلحا شائعا مفهوم الدلالة بين البائع"الكفيل الشكلي" والمشتري"العامل"
وللفيزة الحرة سعر باهض يدفعه العامل في وهو في بلاده لبائع الفيز "السعودي" حتى إذا قدم هذا المسكين وكدح واكتسب من كد يده وعرق جبينه بدأت مطاردته ومصادرة مكتسباته أو إتلافها .
والإقطاعي الذي باع له الفيزة وباع عشرات الآلاف مثلها متكئ على أريكته يتسلى بمتابعة مقاطع الترحيل المحزنة
فالسؤال الآن : أين حملة التصحيح عن هؤلاء الإقطاعيين؟
أم تواطأنا على قطع يد السارق الضعيف ؟!
من غير المقبول أيضاً أن تصمت الجوازات ووزارة العمل على هذه الفوضى تلك السنوات المتطاولة ثم تعسف ملايين الوافدين مع عوائلهم "بحملة تصحيح" في بضعة أشهر ذاقوا فيها صنوف العنت والقلق !
ففي رمضان يقفون بعشرات الآلاف يتزاحمون على نوافذ الجوازات ، ويحطم بعضهم بعضا وهم صائمون في مشهد أخجلنا أمام الخلق والخالق.
حدثني أحدهم أن أرقام الاصطفاف بيعت بمبلغ ألفي ريال ، دفعها مسكين جاء مستجيبا للنظام والتوجيهات يريد تصحيح وضعه في الوقت والزمان والكيفية التي حددناها له!
لماذا لم تكن استعدادات الجوازات بحجم تفريطها السابق؟!
ولماذا لم تكن مدة التصحيح متناسبة مع مدد الأخطاء والصمت ؟!
حتى اللغة المشحونة التي صاحبت الحملة لم تكن لائقة بنا ولا بضيوفنا ؛ استعملنا مصطلحات محشوة بالقسوة والجفوة "متخلفين" "هاربين" "ترحيل"!
نردد ببلاهة (أكلونا هالأجانب) ونحن نعلم علم اليقين أن الذي اكتسبوه بالحلال لا يوازي معشار ما يتسرب من أموالنا في شروخ الفساد ، وإلى داخل جيوب أكابر الفاسدين !
كان بإمكاننا أن نتعامل مع الأمر بنفَس أطول ونستعمل لغة ألطف ، وإجراءات أرقى ، بإمكننا أن نصل لمرادنا مع احتفاظنا بصورة مشرقة لبلادنا ، وعلاقات طيبة مع ضيوفنا.
أما المتسللون و الغائبون عن كفلائهم وأعمالهم (وأخطر فئاتهم الخادمات)
فقبل تهجيرهم بهذه الطريقة يجب أن نتساءل : ماسرّ الصمت الممتد لسنوات مضت أمام شكاوى الناس من هروب الخادمات مثلا ؟
لماذا تجاهلنا ظاهرة الهروب ونحن نعلم أين يسكنون
وأين يعملون ؟
بل كنّا نتعامل معهم وندخلهم بيوتنا ونحن على علم بوضعهم غير النظامي !
والسؤال الأهم
هل سيطرنا على منافذ عودتهم ؟
فالعنف في ترحيلهم مع بقاء ثغرات عودتهم كما هي يعقّد المشكلة ويضاعف خطرهم…
من السهل أن نسوغ تصرفاتنا العنيفة بحقنا في تنظيم بلادنا ، ودعم السعودة ، والحد من المشكلات الأمنية ... الخ
وهذا حق
فنحن لا نتحدث عن القرار ؛ لكننا نتحدث بوضوح عن طريقة تنفيذه
فحقوقنا لا تبرر المعاملة القاسية ولا التجاهل المؤلم لأوضاع إخوننا الإنسانية ، لنساء وأطفال ذاقوا الأمرين من إجراءات الترحيل.
حقنا في التصحيح لا يسوغ إتلاف أو مصادرة أموال ومكتسبات كادحين لا يملكون غيرها…
لا يسوغ لنا حشر الناس في الحافلات والأماكن الضيقة المغلقة حيث لا قيمة لآدميتهم …
بحسب مارأيت وسمعت نحن ننفذ القرار بطريقة احترافية في صناعة الأعداء ، وننحت الذكريات السوداوية في قلوب أناس عاشوا معنا في بلادنا وشاركونا في بنائها…
لابد أن نستيقن أن أي ظلم يقع على أخ غريب في بلادنا نتساكت عليه ونرضاه ؛ فإنما نغرس في قلبه النقمة ؛ فقد ندد المتظاهرون في صنعاء بإجراءات الترحيل ، وهتفوا بهتافات معادية تعكس الجرح الذي شعروا به ، ونشرت الصحف الأثيوبية صور أبنائهم وهم مقيدو الأيدي من الخلف.
ولهذه المواقف ارتداداتها السلبية على صورة بلادنا ، ولها تداعياتها على سياحنا
والأخطر من هذا وذاك هو أننا نعرّض أمننا السابغ وعيشنا الخفيض للنقص والزوال السريع ، ذلك في الدنيا وفي الآخرة موازين قسط لا يعزب عنها صغير ولا كبير!
/www.masa-jaddah.com
|
2016-10-31 01:10